توجد أربعة أسباب على الأقل تشكل حوافز للحكومة الإسرائيلية للسعي إلى العودة إلى مسار سياسي بعد العدوان على غزة، حتى لو قبلت بعض الشروط التي رفضتها سابقاً، مثل تجميد غير معلن للاستيطان، أو عدم الإعلان عن عطاءات جديدة للبناء في المستوطنات، إن قبل الجانب الفلسطيني بذلك. وتوجد دلائل واضحة الآن حتى قبل أن تسكت المدافع، أن الجانب الفلسطيني يرغب في ذلك، بل هو يدعو إلى إنهاء الاحتلال كمرحلة تلي المرحلة الراهنة ومكملة لها، كما صرح أكثر من مسؤول فلسطيني خلال الأسابيع الماضية، بمن في ذلك الرئيس أبو مازن نفسه مؤخراً. ولا توجد مشكلة من ناحية المبدأ في هذه الدعوة، إنما السؤال يتمحور حول ما يمكن أن تفضي إليه هذه المفاوضات، وما إذا كانت آليات اتّخاذ القرار الفلسطيني في حينه ستبقى كما هي أم ستتغير.
ولا تتعلق هذه الأسباب بأي قرار قد يصدر عن مجلس الأمن يدعو فيه إلى العودة إلى المفاوضات على "أساس حدود العام 1967"، كما يمكن أن يشير، حتى يسهل للجانب الفلسطيني قبول القرار، أو أن تقف هذه العبارة عائقاً أمام قبول الجانب الإسرائيلي للقرار من ناحية المبدأ إلا في نطاق المزايدات السياسية بين أطراف الحكومة الحالية. وقد يجدر التذكير أن خلال المفاوضات الأخيرة برعاية وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، عرض الجانب الإسرائيلي "استئجار" مناطق واسعة من الغور لمدة ثلاثين عاماً؛ أي أنه يقبل ضمناً حدود العام 1967 كنقطة انطلاق، ثم يقوم "باستئجار" أجزاء منها. بالتالي، لا معنى جوهرياً لإضافة عبارة "على أساس حدود العام 1967" في أي قرار قادم لمجلس الأمن دون وجود شروط ومستلزمات أخرى، لأن المطالب الإسرائيلية قد تبقى كما هي. وما هو مستجد الآن لدى الجانب الإسرائيلي، هو وجود أسباب جديدة للعودة إلى المفاوضات بعد العدوان على غزة.
ويجب القول مباشرة إن هذه الأسباب الجديدة قد لا تكفي وحدها لبدء مسار تفاوضي جديد، ولكنها ستدفع بهذا الاتجاه. ويتوقف كثيراً على ما إذا تمسك أو لم يتمسك الجانب الفلسطيني بالشروط التي وضعها سابقاً لمثل هذا المسار، منها إيقاف الاستيطان، والإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى، من بين شروط أخرى. ويتوقف أيضاً على ما إذا كانت إحدى نتائج العدوان على غزة انتخابات جديدة في إسرائيل، إذ أن الائتلاف الحاكم حالياً هو زواج قسري لا حب فيه ولا ود، كما بان للقاصي والداني خلال العدوان.
والسبب الأول الذي يشكل حافزاً للحكومة الإسرائيلية الحالية، أو أي حكومة قادمة للعودة إلى المفاوضات هو الحاجة "لفرملة" أو إضعاف حملة "المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات" العالمية ("مساع" أو BDS) التي تعاظمت وتوسعت بعد العدوان على غزة، وتنذر بانطلاقة جديدة وعلى نطاق عالمي. وكانت مراكز أبحاث إسرائيلية عدة، إضافة إلى وزارة الخارجية قد حذرت قبل ثلاثة أعوام من أثر هذه الحملة السلبي على إسرائيل إن توفرت لها ظروف الاستمرار والتراكم. وهذا ما حصل الآن وكنتيجة للجرائم المرتكبة. وكان من الطبيعي لكل الشعوب والدول التي تضامنت مع الفلسطينيين في هذا الظرف، أن يأخذ هذا التضامن بعداً عملياً، وبدا لهم أن "مساع" هي ضالتهم النضالية إن جاز التعبير، في هذا الظرف بالذات. وكانت الحكومة الإسرائيلية أدركت منذ ما يزيد على عامين "الخطر" الإستراتيجي لهذه المساعي، وشنت حملة مضادة سمّتها "مسعى نزع الشرعية عن إسرائيل". وبيت القصيد هنا، أن مساراً تفاوضياً جديداً يسمى "مسار السلام" يتوقع منه إضعاف حملة المقاطعة العالمية المتصاعدة، وبخاصة إن انتهى باتفاقية ما، أسوة بما حصل بلجان التضامن الدولية بعد اتفاق أوسلو الذي "سحب البساط" من تحت أرجلها في حينه بفعل هذا الاتفاق.
أما السبب الثاني، فهو حاجة إسرائيل لدرء جزئي على الأقل "لخطر" الملاحقات لجرائم الحرب. وسيتعرض الجانب الفلسطيني كما تعرض سابقا لضغوطات متنوعة لعدم متابعة هذه الجرائم، وستقل فاعلية هذه الضغوطات في غياب أي مسار سياسي، وبوجود ضغوطات معاكسة من الجمهور الفلسطيني ومن مناصريه الدوليين. وبوجود مسار كهذا، ستقول الولايات المتحدة والدول الأوروبية وبعض الدول العربية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن نشر تقريرهم أو متابعته من قبلهم أو من قبل آخرين سيعرض "مسار السلام" للخطر، كما تم مع تقرير جولدستون الذي دفن بعد هجوم شرس وغير مسبوق على جولدستون نفسه. وإني أعتقد جازماً أنه لو لم يهمل تقرير جولدستون من قبل من يعنيهم الأمر لما تجرأت إسرائيل على ارتكاب هذه المجازر في غزة.
ويكمن السبب الثالث في حاجة إسرائيل تعزيز تحالفاتها مع عدد من الدول العربية، وبشكل أوثق مما هو حاصل الآن، وهذا يحتاج إلى تسوية ما ولو مرحلية للصراع. وقد ظهر هذا جلياً في مواقف عدد من الكتّاب في الصحف العربية المحسوبة على هذه الأنظمة، إضافة إلى تصريح بعض المسؤولين العرب من أن الاتفاق على شروط وقف إطلاق النار ورفع الحصار غير كافية، وما يلزم هو مسار سياسي ينتهي بتسوية سياسية أوسع. وهذا معنى القول إن سحب السلاح من غزة يمكن أن يتم فقط مع نهاية مسار سياسي.
أما السبب الرابع، فبدأت بوادره تظهر لدى عدد من المحللين والكتّاب في الصحف العبرية في الأسبوع الرابع من العدوان، ومفاده أن هذه الحرب الثالثة على غزة ستكسب إسرائيل بضع سنوات، لكن يجب البدء من الآن بالاستعداد لحرب رابعة، ما لم تسعَ إسرائيل "لاتفاقية سلام". وعندئذ، حسب قول هؤلاء، يمكن الحديث عن تجريد غزة من السلاح، المطلب الذي أصرت عليه إسرائيل في بداية مفاوضات القاهرة، ثم تخلت عنه لعدم واقعيته، واكتفت بمطلب عدم إعادة تسليح المقاومة.
وإذا كان ثمة مسار سياسي جديد ممكن ما بعد العدوان، فلا توجد حالياً أي مؤشرات على أنه سيفضي إلى نتائج حميدة من منظور فلسطيني عام. إن النسخ الأولية المتداولة لقرار مجلس الأمن المقترح تفيد بأن لا شيء جديداً سوى مسعى إلى إدارة الصراع بالآلية الفاشلة نفسها؛ أي "المفاوضات" الثنائية، وربما بضغط من أنظمة عربية أيضاً للتوصل إلى اتفاق ما، يجعلها "تتخلص" من القضية الفلسطينية بعد أن أعادها العدوان على غزة إلى الواجهة. لذا، من الضروري إعادة النظر في آليات اتّخاذ القرار السياسي الفلسطيني وتوسيع قاعدة اتّخاذ القرار حتى لا تواجه القيادة الفلسطينية وحدها الضغوطات المتوقعة لقبول ما يمكن لإسرائيل أن تقبل به للفلسطينيين، وينتهي دمار غزة بدمار سياسي مرادف.